فصل: ذكر ملك الغورية غزنة وعودهم عنها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر حادثة ينبغي أن يحتاط العاقل من مثلها:

كان يوسف هذا صاحب قابس قد أرسل رسولاً إلى رجار بصقيلية، فاجتمع هو ورسول الحسن صاحب المهدية عنده، فجرى بين الرسولين مناظرة، فذكر رسول يوسف الحسن وما نال منه وذمه، ثم إنهما عادا في وقت واحد، وركبا البحر كل واحد منهما في مركبه، فأرسل رسول الحسن رقعة إلى صاحبه على جناح طائر يخبره بما كان من رسول يوسف، فسير الحسن جماعة من أصحابه في البحر، فأخذوا رسول يوسف وأحضروه عند الحسن، فسبه وقال: ملكت الفرنج بلاد المسلمين وطولت لسانك بذمي! ثم أركبه جملاً وعلى رأسه طرطور بجلاجل وطيف به في البلد ونودي عليه: هذا جزاء من سعى أن يملك بلاد المسلمين؛ فلما توسط المهدية ثار به العامة فقتلوه بالحجارة،

.ذكر ملك الفرنج المرية وغيرها من بلاد الأندلس:

في هذه السنة، في جمادى الأولى، حصر الفرنج مدينة المرية من الأندلس، وضيقوا عليها براً وبحراً، فملكوها عنوة، وأكثروا القتل بها والنهب، وملكوا أيضاً مدينة بياسة وولاية جيان، وكلها بالأندلس، ثم استعادها المسلمون بعد ذلك منهم، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

.ذكر ملك نور الدين محمود بن زنكي عدة مواضع من بلد الفرنج:

في هذه السنة دخل محمود بن زنكي صاحب حلب، بلد الفرنج، ففتح منه مدينة ارتاح باسيف ونهبها وحصن مابولة وبصرفون وكفر لاثا. وكان الفرنج بعد قتل والده زنكي قد طمعوا، وظنوا أنهم بعده يستردون ما أخذه، فلما رأوا من نور الدين هذا الجد في أول أمره علموا أن ما أملوه بعيد.

.ذكر أخذ الحلة من علي بن دبيس وعوده إليها:

في هذه السنة كثر فساد علي بن دبيس بالحاة وما جاورها، وكثرت الشكاوى منه، فأقطع السلطان مسعود الحلة للأمير سلار كرد، فسار إليها من همذان ومعه عسكر وانضاف إليهم جماعة من عسكر بغداد، وقصدوا الحلة، واحتاط على أهل علي ورجعت العساكر، وأقام هو بالحلة في مماليكه وأصحابه، وسار عليبن دبيس فلحق بالبقش كون خر، وكان بإقطاعه، في اللحف، متجنياً على السلطان، فاستنجده، فسار معه إلى واسط، واتفق هو والطرنطاي، وقصدوا الحلة فاستنقذوها من سلار كرد في ذي الحجة، وفارقها سلار كرد وعاد إلى بغداد.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، في جمادى الأولى، خطب للمستنجد بالله يوسف بن المقتفي لأمر الله بولاية العهد.
وفيها ولي عون الدين يحيى بن هبيرة كتابة ديوان الزمام ببغداد، وولي زعيم الدين يحيى بن جعفر المخزن.
وفيها، في ربيع الأول، مات أبو القاسم طاهر بن سعيد بن أبي سعيد بن أبي الخير الميهني شيخ رباط البسطامي ببغداد، وفي ربيع الآخر توفيت فاطمة خاتون بنت السلطان محمد زوجة المقتفي لأمر الله.
وفي رجب منها مات أبو الحسن محمد بن المظفر علي بن المسلمة، ابن رئيس الرؤساء، ومولده سنة أربع وثمانين، وكان قد تصوف، وجعل داره التي في القصر رباطاً للصوفية.
وفيها سار سيف الدين غازي بن زنكي إلى قلعة دارا، فملكها وغيرها من بلد ماردين، ثم سار إلى ماردين وحصرها وخرب بلدها ونهبه.
وكان سبب ذلك أن أتابك زنكي لما قتل تطاول صاحب ماردين وصاحب الحصن إلى ما كان قد فتحه من بلادهما فأخذاه، فلما ملك سيف الدين وتمكن سار إلى ماردين وحصرها، وفعل ببلدها الأفاعيل العظيمة، فلما رأى صاحبها، وهو حينئذ حسام الدين تمرتاش، ما يفعل في بلده قال: كنا نشكو من أتابك الشهيد، وأين أيامه؟ لقد كانت أعياداً. قد حصرنا غير مرة، فلم يأخذ هو ولا أحد من عسكره مخلاة تبن بغير ثمن، ولا تعد هو وعسكره حاصل السلطان، وأرى هذا ينهب البلاد ويخربها.
ثم راسله وصالحه، وزوجه ابنته، ورحل سيف الدين عنه وعاد إلى الموصل، وجهزت ابنة حسام الدين وسيرت إليه، فوصلت وهو مريض قد أشفى على الموت، فلم يدخل بها وبقيت عنده إلى أن توفي وملك قطب الدين مودود، فتزوجها، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها أشتد الغلاء بإفريقية ودامت أيامه، فإن أوله كان سنة سبع وثلاثين وخمسمائة، وعظم الأمر على أهل البلاد حتى أكل بعضهم بعضاً، وقصد أهل البوادي المدن من الجوع، فأغلقها أهلها دونهم، وتبعه وباء وموت كثير، حتى خلت البلاد، وكان أهل البيت لا يبقى منهم أحد، وسار كثير منهم إلى صقيلية في طلب القوت، ولقوا أمراً عظيماً. ثم دخلت:

.سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة:

.ذكر ملك الفرنج مدينة المهدية بإفريقية:

قد ذكرنا سنة إحدى وأربعين وخمسمائة مسير أهل يوسف، صاحب قابس، إلى رجار ملك صقلية، واستغاثتهم به، فغضب لذلك، وكان بينه وبين الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي صاحب إفريقية، صلح وعهود إلى مدة سنتين، وعلم أنه فاته فتح لبلاد في هذه الشدة التي أصابتهم، وكانت الشدة دوام الغلاء في جميع المغرب من سنة سبع وثلاثين إلى هذه السنة، وكان أشد ذلك سنة اثنتين وأربعين، فأن الناس فارقوا البلاد والقرى، ودخل أكثرهم إلى مدينة صقيلية، وأكل الناس بعضهم بعضاً، وكثر الموت في الناس، فاغتنم رجار هذه الشدة، فعمر الأسطول، وأكثر منه، فبلغ نحو مائتين وخمسين شينياً مملوءة رجالاً وسلاحاً وقوتاً.
وسار الأسطول عن صقلية إلى جزيرة قوصرة، وهي بين المهدية وصقلية، فصادفوا بها مركباً وصل من المهدية، فأخذ أهله وأحضروا بين يدي جرجي مقدم الأسطول، فسألهم عن حال إفريقية، ووجد في المركب قفص حمام، فسألهم هل أرسلوا منها، فحلفوا أنهم لم يرسلوا منها شيئاً، فأمر الرجل الذي كان الحمام صحبته أن يكتب بخطه: إننا لما وصلنا جزيرة قوصرة وجدنا بها مراكب من صقلية، فسألناهم عن الأسطول المخذول، فذكروا أنه أقلع إلى جزائر القسطنطينية.
وأطلق الحمام فوصل إلى المهدية، فسر الأمير الحسن والناس؛ وأراد جرجي بذلك أن يصل بغتة، ثم سار، وقدر وصولهم إلى المهدية وقت السحر ليحيط بها قبل أن يخرج أهلها، فلو تم له ذلك لم يسام منهم أحد، فقدر الله تعالى أن أرسل عليهم ريحاً هائلة عكستهم، فلم يقدروا على المسير إلا بالمقاذيف، فطلع النهار ثاني صفر في هذه السنة قبل وصولهم، فرآهم الناس، فلما وصلوا رأى جرجي ذلك وأن الخديعة فاتته، أرسل إلى الأمير الحسن يقول: إنما جئت بهذا الأسطول طالباً بثأر محمد بن رشيد صاحب قابس ورده إليها، وأما أنت فبيننا وبينك عهود وميثاق إلى مدة، ونريد منك عسكراً يكون معنا، فجمع الحسن الناس من الفقهاء والأعيان وشاورهم، فقالوا: نقاتل عدونا، فإن بلدنا حصين. فقال: أخاف أن ينزل إلى البر ويحصرنا براً وبحراً، ويحول بيننا وبين الميرة، وليس عندنا ما يقوتنا شهراً، فنؤخذ قهراً. وأنا أرى سلامة المسلمين من الأسر والقتل خيراً من الملك، وقد طلب مني عسكراً إلى قابس، فإذا فعلت فما يحل لي معونة الكفار على المسلمين، وإذا امتنعت يقول، انتقض ما بيننا من الصلح، وليس يريد إلا أن يثبطنا حتى يحول بيننا وبين البر، وليس لنا بقتاله طاقة، والرأي أن نخرج بالأهل والولد ونترك البلد، فمن أراد أن يفعل كفعلنا فليبادر معنا.
وأمر في الحال بالرحيل، وأخذ معه من حضره وما خف حمله، وخرج الناس على وجوههم بأهليهم وأولادهم وما خف من أموالهم وأثاثهم، ومن الناس من اختفى عند النصارى وفي الكنائس، وبقي الأسطول في البحر تمنعه الريح من الوصول إلى المهدية إلى ثلثي النهار، فلم يبق في البلد ممن عزم على الخروج أحد، فوصل الفرنج ودخلوا البلدبغير مانع ولا دافع، ودخل جرجي القصر فوجده على حاله لم يأخذ الحسن منه إلا ما خف من ذخائر الملوك، وفيه جماعة من حظاياه، ورأى الخزائنمملوءة من الذخائر النفيسة وكل شيىء غريب يقل وجود مثله، فختم عليه، وجمع سراري الحسن في قصره.وكان عدة من ملك منهم من زيري بن مناد إلى الحسن تسعة ملوك، ومدة ولايتهم مائتا سنة وثماني سنوات، من سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة إلى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة؛ وكان بعض القواد قد أرسله الحسن إلى رجار برسالة، فأخذ لنفسه وأهله منه أماناً، فلم يخرج معهم، ولما ملك المدينة نهبت مقدار ساعتين، ونودي بالأمان، فخرج من كان مستخفياً، وأصبح جرجي من الغد، لفأرسل إلى من قرب من العرب، فدخلوا إليه، فأحسن إليهم وأعطاهم أموالاً جزيلة، وأرسل من جند المهدية الذين تخافوا بها جماعة، ومعهم أمان لأهل المهدية الذين خرجوا منها، ودواب يحملون عليها الأطفال والنساء، وكانوا قد أشرفوا على الهلاك من الجوع، ولهم بالمهدية خبايا وودائع، فلما وصل إليهم الأمان رجعوا، فلم تمض جمعة حتى رجع أكثر أهل البلد.
وأما الحسن فإنه سار بأهله وأولاده، وكانوا اثني عشر ولداً ذكراً غير الإناث، وخواص خدمه، قاصداً إلى محرز بن زياد، وهو بالمعلقة، فلقيه في طريقه أمير من العرب يسمى حسن بن ثعلب، فطلب منه مالاً انكسر له في ديوانه، فلم يمكن الحسن إخراج مال لئلا يؤخذ، فسلم إليه ولده يحي رهينة وسار، فوصل في اليوم الثاني إلى محرز، وكان الحسن قد فضله على جميع العرب وأحسن إليه، ووصله بكثير من المال، فلقيه محرز لقاء جميلاً، وتوجع لما حل به، فأقام عنده شهوراً، والحسن كاره للإقامة، فأراد المسير فأراد المسير إلى ديار مصر إلى الخليفة الحافظ العلوي، واشترى مركباً لسفره، فسمع جرجي الفرنجي، فجهز شواني ليأخذه، فعاد الحسن عن ذلك، وعزم على المسير إلى عبد المؤمن بالمغرب، فأرسل كبار أولاده يحيى وتميماً وعلياً إلى يحيا بن عبد العزيز، وهو من بني حماد، وهما أولاد عم، يستأذنه في الوصول إليه، وتجديد العهد به، والمسير من عنده إلى عبد المؤمن، فأذن له يحيى، فسار إليه، فلما وصل لم يجتمع به يحيى وسيره إلى جزيرة بني مزغناي هو وأولاده ووكل به من يمنعهم من التصرف، فبقوا كذلك إلى أن ملك عبد المؤمن بجاية سنة سبع وأربعين، فحضر عنده وقد ذكرنا حاله هناك.
ولما استقر جرجي بالمهدية سير اسطولاً، بعد أسبوع، إلى مدينة سفاقس، وسير أسطولاً آخر إلى مدينة سوسة، فأما سوسة فإن أهلها لما سمعوا خبر المهدية، وكان واليها علي بن الحسن الأمير، فخرج إلى أبيه، وخرج الناس لخروجه، فدخلها الفرنج بلا قتال ثاني عشر صفر؛ وأما سفاقس فإن أهلها أتاهم كثير من العرب، فامتنعوا بهم، فقاتلهم الفرنج، فخرج إليهم أهل البلد فأظهر الفرنج الهزيمة، وتبعهم الناس حتى أبعدوا عن البلد، ثم عطفوا عليهم، فانهزم قوم إلى البلد وقوم إلى البرية، وقتل منهم جماعة، ودخل الفرنج البلد فملكوه بعد قتال شديد وقتلى كثيرة، وأسر من بقي من الرجال وسبي الحريم، وذلك في الثالث والعشرين من صفر، ثم نودي بالأمان، فعاد أهلها إليها، وافتكوا حرمهم وأولادهم، ورفق بهم وبأهل سوسة والمهدية، وبعد ذلك وصلت كتب من رجار لجميع أهل إفريقية بالأمان والمواعيد الحسنة.
ولما استقرت أحوال البلاد سار جرجي في أسطول إلى قلعة إقليبية، وهي قلعة حصينة، فلما وصل إليها سمعته العرب، فاجتمعوا إليها، ونزل إليهم الفرنج، فاقتتلوا فانهزم الفرنج وقتل منهم خلق كثير، فرجعوا خاسرين إلى المهدية، وصار للفرنج من طرابلس الغرب إلى قريب تونس ومن المغرب إلى دون القيروان، والله أعلم.

.ذكر حصر الفرنج دمشق وما فعل سيف الدين غازي بن زنكي:

في هذه السنة سار ملك الألمان من بلاده في خلق كثير وجمع عظيم من الفرنج، عازماً على قصد بلاد الإسلام، وهو لا يشك في ملكها بأيسر قتال لكثرة جموعه، وتوفر أمواله وعدده، فلما وصل إلى الشام قصده من به من الفرنج وخدموه، وامتثلوا أمره ونهيه، فأمرهم بالمسير معهم إلى دمشق ليحصرها ويملكها بزعمه، فساروا معه ونازلوها وحصروها، وكان صاحبها مجير الدين أبق بن نوري بن طغدكين، وليس له من الأمر شيء، وإنما الحكم في البلدلمعين الدين أنر مملوك جده طغدكين، وهو الذي أقام مجير الدين؛ وكان معين الدين عاقلاً، عادلاً خيراً، حسن السيرة، فجمع العساكر وحفظ البلد.
وأقام الفرنج يحاصرونهم، ثم إنهم زحفوا سادس ربيع الأول بفارسهم وراجلهم، فخرج إليهم أهل البلد والعسكر فقاتلوهم، وصبروا لهم، وفيمن خرج للقتال الفقيه حجة الدين يوسف بن دي ناس الفندلاوي المغربي، وكان شيخاً كبيراً، فقيهاً عالماً، فلما رآه معين الدين،وهو راجل، قصده وسلم عليه، وقال له: ياشيخ أنت معذور لكبر سنك، ونحن نقوم بالذب عن المسلمين؛ سأله أن يعود، فلم يفعل وقال له: قد بعت واشترى مني، فوالله لا أقلته ولا استقلته؛ فعنى قول الله تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} وتقدم فقاتل الفرنج حتى قتل عند النيرب نحو نصف فرسخ عن دمشق.
وقوي الفرنج وضعف السلمين، فتقدم ملك الألمان حتى نزل بالميدان الأخضر، فأيقن الناس بأنه يملك البلد. وكان معين الدين قد أرسل إلى سيف الدين غازي بن أتابك يدعوه إلى نصرة المسلمين وكف العدو عنهم، فجمع عساكره وسار إلى الشام، واستصحب معه أخاه نور الدين محمود من حلب، فنزلوا بمدينة حمص، وأرسل إلى معين الدين يقول له: قد حضرت ومعي كل من يحمل السلاح من بلادي، فأريد أن يكون نوابي بمدينة دمشق لأحضر وألقى الفرنج، فإن انهزمت دخلت أنا وعسكري البلد، واحتمينا به، وإن ظفرت فالبلد لكم لا أنازعكم فيه.
فأرسل إلى الفرنج يتهددهم إن لم يرحلوا عن البلد، فكف الفرنج عن القتال خوفاً من كثرة الجراح، وربما اضطروا إلى قتال سيف الدين، فأبقوا على نفوسهم، فقوي أهل البلد على حفظه، واستراحوا من لزوم الحرب، وأرسل معين الدين إلى الفرنج الغرباء: إن ملك المشرق قد حضر، فإن رحلتم، وإلا سلمت البلد إليه، وحينئذ تندمون؛ وأرسل إلى فرنج الشام يقوللهم: بأي عقل تساعدون هؤلاء علينا، وأنتم تعلمون أنهم إن ملكوا دمشق أخذوا ما بأيديكم من البلاد الساحلية، وأما أنا فإن رأيت الضعف عن حفظ البلد سلمته إلى سيف الدين،وأنتم تعلمون أنه إن ملك دمشق لا يبقى لكم معه مقام في الشام؛ فأجابوه إلى التخلي عن ملك الألمان، وبذل لهم تسليم حصن بانياس إليهم.
واجتمع الساحلية بملك الألمان، وخوفوه من سيف الدين وكثرة عساكره وتتابع الأمداد إليه، وأنه ربما أخذ دمشق وتضعف عن مقاومته؛ ولم يزالوا به حتى رحل عن البلد، وتسلموا قلعة بانياس، وعاد الفرنج الألمانية إلى بلادهم وهي من وراء القسطنطينية، وكفى الله المؤمنين شرهم.
وقد ذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر في تاريخ دمشق: أن بعض العلماء حكى له أنه رأى الفندلاوي في المنام، فقال له: ما فعل الله بك، وأين أنت؟ فقال غفر لي، وأنا في جنات عدن على سرر متقابلين.

.ذكر ملك نور الدين محمود حصن العريمة:

لما سار الفرنج عن دمشق رحل نور الدين إلى حصن العريمة، وهو للفرنج، فملكه.
وسبب ذلك أن ملك الألمان لما خرج إلى الشام كان معه ولد الفنش، وهو من أولاد ملوك الفرنج، وكان جده هو الذي أخذ طرابلس الشام من المسلمين، فأخذ حصن العريمة وتملكه، وأظهر أته يريد أخذ طرابلس من القمص، فأرسل القمص إلى نور الدين محمود، وقد اجتمع هو ومعين الدين أنر ببعلبك، يقول له ولمعين الدين ليقصدا حصن العريمة ويملكاه من ولد الفنش،فسارا إليه مجدين في عساكرهما، وأرسلا إلى سيف الدين وهو بحمص يستنجدانه، فأمدهما بعسكر كثير مع الأمير عز الدين أبي بكر الدبيسي، صاحب جزيرة ابن عمر وغيرها، فنازلوا الحصن وحصروه، وبه ابن الفنش، فحماه وامتنع به، فزحف المسلمون إليه غير مرة، وتقدم إليه النقابون فنقبوا السور، فستسلم حينئذ من به من الفرنج، فملكه المسلمون وأخذوا كل من به من فارس وراجل وصبي وامرأة، وفيهم ابن الفنش كما قيل: خرجت النعامة تطلب قرنين فعادت بلا أذنين،

.ذكر الخلف بين السلطان مسعود وجماعة من الأمراء ووصولهم إلى بغداد وما كان منهم في العراق:

في هذه السنة فارق السلطان مسعوداً جماعة من أكابر الأمراء، وهم من أذربيجان: إيلدكرالمسعودي، صاحب كنجة وأرانية، وقيصر، ومن الجبل: البقش كون خر، وتتر الحاجب، وهو من مماليك مسعود أيضًا، وطرنطاي المحمودي، شحنة واسط، والدكز، وقرقوب وابن طغايرك.
وكان سبب ذلك ميل السلطان إلى خاص بك واطراحه لهم، فخافوا أن يفعل بهم مثل فعله بعبد الرحمن وعباس وبوزابة، ففارقوه وساروا نحو العراق، وغلت الأسعار، وتقدم الإمام المقتفي لأمر الله بإصلاح السور وترميمه، وأرسل الخليفة إليهم بالعبادي الواعظ، فلم يرجعوا إلى قوله، ووصلوا إلى بغداد في ربيع الأخر، والملك محمد ابن السلطان محمود معه من ونزلوا بالجانب الشرقي، وفارق مسعود بلال شحنة بغداد البلد خوفاً من الخليفة، وسار إلى تكريت وكانت له، فعظم الأمر على أهل بغداد، ووصل إليهم علي بن دبيس صاحب الحلة، فنزل بالجانب الغربي، فجند الخليفة أجناداً يحتمي بهم.
ووقع القتال بين الأمراء وبين عامة بغداد ومن بها من العسكر، واقتتلوا عدة دفعات، ففي بعض الأيام انهزم الأمراء الأعاجم من عامة بغداد مكراً وخديعة، وتبعهم العامة، فلما أبعدوا عادوا عليهم وصار بعض العسكر من ورائهم، ووضعوا السيف فقتل من العامة خلق كثير، ولم يبقوا على صغير ولا كبير، وفتكوا فيهم، فأصيب أهل بغداد بما لم يصابوا بمثله، وكثر القتلى والجرحى وأسر منهم خلق كثير فقتل البعض وشهر البعض، ودفن الناس من عرفوا، ومن لم يعرف ترك طريحاً بالصحراء، وتفرق العسكر في المحال الغربية، فأخذوا من أهلها الأموال الكثيرة، ونهبوا بلد دجيل وغيره، وأخذوا النساء والولدان.
ثم إن الأمراء اجتمعوا ونزلوا مقابل التاج وقبلوا الأرض واعتذروا، وترددت الرسل بينهم وبين الخليفة إلى آخر النهار،وعادوا إلى خيامهم، ورحلوا إلى النهروان، فنهبوا البلاد، وافسدوا فيها، وعاد مسعود بلال شحنة بغداد من تكريت إلى بغداد.
ثم إن هؤلاء الأمراء تفرقوا وفارقوا العراق، وتوفي الأمير قيصر بأذربيجان، هذا كله والسلطان مسعود مقيم ببلد الجبل، والرسل بينه وبين عمه السلطان سنجر متصلة؛ وكان السلطان سنجر قد أرسل إليه يلومه على تقديم خاص بك، ويأمره بإبعاده، ويتهدده بأنه إن لم يفعل فسيقصده ويزيله عن السلطنة؛ وهو يغالط ولا يفعل، فسار السلطان سنجر إلى الري، فلما علم السلطان مسعود بوصوله سار إليه وترضاه، واستنزله عما في نفسه فسكن. وكان اجتماعهما سنة أربع وأربعين على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

.ذكر انهزام الفرنج بيغرى:

في هذه السنة هزم نور الدين محمود بن زنكي الفرنج بمكان اسمه يغرى من أرض الشام، وكانوا قد تجمعوا ليقصدوا أعمال حلب ليغيروا عليها، فعلم بهم، فسار إليهم في عسكره، فالتقوا بيغرى واقتتلوا قتالاً شديداً وأجلت المعركة عن انهزام الفرنج، وقتل كثير منهم، وأسر جماعة من مقدميهم، ولم ينج من ذلك الجمع إلا القليل؛ وأرسل من الغنيمة والأسارى إلى أخيه سيف الدين وإلى الخليفة ببغداد وإلى السلطان مسعود وغيرهم.
وفي هذه الوقعة يقول ابن القيسراني في قصيدته التي أولها:
ياليت أن الصد مصدود ** أولا، فليت النوم مردود

ومنها في ذكر نور الدين:
وكيف لا نثني على عيشنا ال ** محمود والسلطان محمود

وصارم الإسلام لا ينثني ** إلا وشلو الكفر مقدود

مكارم لم تك موجودة ** إلا ونور الدين موجود

وكم له من وقعة يومها ** عند الملوك، الكفر مشهود

.ذكر ملك الغورية غزنة وعودهم عنها:

في هذه السنة قصد سوري بن الحسين ملك الغور مدينة غزنة فملكها. وسبب ذلك أن أخاه ملك الغورية قبله محمد بن الحسين كان قد صاهر بهرام شاه مسعود بن إبراهيم، صاحب غزنة، وهو من بيت سبكتكين، فعظم شأنه بالمصاهرة، وعلت همته، فجمع جموعاً كثيرة وسار إلى غزنة ليملكها، وقيل: إنما سار إليها مظهراً الخدمة والزيارة، وهو يريد المكر والغدر، فعلم به بهرام شاه، فأخذه وسجنه، ثم قتله، فعظم قتله على الغورية، ولم يمكنهم الأخذ بثأره.
ولما قتل ملك بعده أخاه سام بن الحسين، فمات بالجدري، وملك بعده أخوه الملك سوري بن الحسين بلاد الغور، وقوي أمره، وتمكن في ملكه، فجمع عسكره من الفارس ومن الراجل وسار إلى غزنة طالباً بثأر أخيه المقتول وقاصداً ملك غزنة، فلما وصل إليها ملكها في جمادى الأولى، سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة.
وفارقها بهرام شاه إلى بلاد الهند، وجمع جموعاً كثيرة، وعاد إلى غزنة وعلى مقدمته السلار الحسن بن إبراهيم العلوي أمير هندوستان. وكان عسكر غزنة، الذين أقاموا مع سوري بن الحسين الغوري وخدموه، قلوبهم مع بهرام شاه، وإنما هم بظواهرهم مع سوري، فلما التقى سوري وبهررام شاه رجع عسكر غزنة إلى بهرام شاه وصاروا معه، وسلموا إلى سوري ملك الغورية، وملك بهرام شاه غزنة في المحرم سنة أربع وأربعين، وصلب الملك سوري مع السيد الماهياني في المحرم أيضاً من السنة.
وكان سوري أحد الأجواد، له الكرم الغزير، والمروءة العظيمة، حتى أنه كان يرمي الدراهم في المقاليع إلى الفقراء لتقع بيد من يتفق له.
ثم عاود الغورية وملكوها، وخربوها، وقد ذكرناه سنة سبع وأربعين وذكرنا هناك ابتداء دولة الغورية لأنهم في ذلك الوقت عظم محلهم، وفارقوا الجبال وقصدوا خراسان، وعلا شأنهم، وفي بعض الخلف كما ذكرناه، والله أعلم.

.ذكر ملك الفرنج مدناً من الأندلس:

في هذه السنة ملك الفرنج بالأندلس مدينة طرطوشة، وملكوا معها جميع قلاعها وحصون لاردة وأفراغة، ولم يبق للمسلمين في تلك الجهات شيء إلا واستولى الفرنج على جميعه لاختلاف المسلمين بينهم، وبقي بأيديهم إلى الآن.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة توفي أبو بكر المبارك بن الكامل بن أبي غالب البغدادي المعروف أبوه بالخفاف، سمع الحديث الكثير وكان مفيد بغداد.
وفيها غلت الأسعار بالعراق وتعذرت الأقوات بسبب العسكر الوارد، وقدم أهل السواد إلى بغداد منهزمين قد أخذت أموالهم، وهلكوا جوعاً وعرياً، وكذلك أيضاً كان الغلاء في أكثر البلاد: خراسان، وبلاد الجبل، وأصفهان، وديار فارس، والجزيرة والشام، وأما المغرب فكان أشد غلاء بسبب انقطاع الغيث ودخول العدو إليها.
وفيها توفي إبراهيم بن نبهان الغنوي الرقي، ومولده سنة تسع وخمسين وأربعمائة، وصحب الغزالي والشاشي، وروى الجمع بين الصحيحين للحميدي عن مصنفه.
وفيها، في ذي القعدة، توفي الأمام أبو الفضل الكرماني الفقيه الحنفي إمام خراسان. ثم دخلت: